سورة الحاقة - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحاقة)


        


{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (37)}
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}
قال الضحاك: يعني موته لا حياة بعدها.
وكذا قال محمد بن كعب، والربيع، والسدي.
وقال قتادة: تمنى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه.
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي: لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير. فعندها يقول الله، عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}.
أي: يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر، فَتَغُله، أي: تضع الأغلال في عنقه، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها، أي: تغمره فيها.
قال ابن أبي حاتم حدثنا: أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن المِنْهَال بن عمرو قال: إذا قال الله، عز وجل {خذوه} ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا، فيلقي سبعين ألفا في النار.
وروى ابن أبي الدنيا في الأهوال: أنه يبتدره أربعمائة ألف، ولا يبقى شيء إلا دَقَه، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك.
وقال الفضيل- هو ابن عياض-: إذا قال الرب، عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ابتدره سبعون ألفا ملك، أيهم يجعل الغل في عنقه.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي: اغمروه فيها.
وقوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد الدنيا.
وقال العَوفي عن ابن عباس، وابن جرير: بذراع الملك.
وقال ابن جريج، قال ابن عباس: {فاسلكوه} تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى.
وقال العوفي، عن ابن عباس: يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رَصَاصة مثل هذه- وأشار إلى مثل جُمْجُمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة، لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ، قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها».
وأخرجه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر عن عبد الله بن المبارك، به قال: هذا حديث حسن.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم».
وقوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} أي: ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله، لا حميم- وهو القريب- ولا شفيع يطاع، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.
قال قتادة: هو شر طعام أهل النار.
وقال الربيع، والضحاك: هو شجرة في جهنم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم.
وقال شَبِيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم.
وقال علي بن أبي طلحة عنه: الغسلين: صديد أهل النار.


{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني: محمدًا، أضافه إليه على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وهذا جبريل، عليه السلام.
ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} يعني: أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: بمتهم {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 19- 25]، وهكذا قال هاهنا: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ}، فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه؛ ولهذا قال: {تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} قال: فقلت: كاهن. قال فقرأ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
إلى آخر السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد.


{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أي: محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة. ولهذا قال {لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين؛ لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذنا منه بيمينه.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه.
وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحكم، وقتادة، والضحاك، ومسلم البَطِين، وأبو صخر حُميد بن زياد.
وقال محمد بن كعب: هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
وقوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي: فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله، عز وجل، مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات.
ثم قال: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يعني: القرآن كما قال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
ثم قال {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أي: مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن.
ثم قال: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال ابن جرير: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.
وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن أبي مالك: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يقول: لندامة. ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي: وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الشعراء: 200، 201]، وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] ولهذا قال ها هنا: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.
ثم قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: الذي أنزل هذا القرآن العظيم. آخر تفسير سورة الحاقة، ولله الحمد.

1 | 2